بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي هدانا لاتباع سيد المرسلين، وأيدنا بالهداية إلى دعائم الدين، ويسر لنا اقتفاء أثر السلف الصالحين حتى امتلأت قلوبنا بأنوار علم الشرع وقواطع الحق المبين، وطهر سرائرنا من حدث الحوادث والابتداع في الدين، أحمده على ما من به من أنوار اليقين، وأشكره على ما أسداه من التمسك بالحبل المتين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله سيد الأولين والآخرين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين صلاة دائمة إلى يوم الدين.
أولا: تخريج جواز الاحتفال بالمولد النبوي الشريف من الكتاب والسنة
الدليل الأول: تعظيم أيام وأماكن ولادة بعض الأنبياء في الكتاب والسنة.
أولاً:- من القرءان الكريم
كقوله تعالى حكاية عن سيدنا يحيى –عليه السلام- قوله "وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً" ، وكذلك عن سيدناعيسى -عليه السلام – بقوله "والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا"في سورة مريم أفلا يكون لنبينا نصيب من هذا السلام
ثانياً : - من السنة النبوية المشرفة
ومن ذلك ما ورد عن شداد بن عويس " أمر جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم بصلاة ركعتين ببيت لحم ثم قال له: أتدري أين صليت؟ قال: لا, قال: صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى "
رواه البزار وأبو يعلي والطبراني . وكذلك الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد، ورجاله رجال الصحيح
وقد نقل هذه الرواية الحافظ بن حجر في الفتح ، وأخرجه النسائي
الحديث الأول: احتفاله صلى الله عليه وسلم بمولده بصيامه يوم الإثنين.-
فقد أخرج مسلم في صحيحه عن أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
سئل عن صوم يوم الاثنين فقال :- ذاك يوم ولد ت فيه, وفيه أنزل علي"
الحديث الثاني :- عقه صلى الله عليه وآله وسلم عن نفسه
أخرجه البيهقي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم "عق عن نفسه بعد النبوة، مع أنه قد ورد أن جده عبد المطلب عق عنه في سابع ولادته، والعقيقة لا تعاد مرة ثانية قال السيوطي :-فيحمل ذلك على أن الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم إظهار للشكر على إيجاد الله إياه رحمة للعالمين، وتشريع لأمته كما كان .
الدليل الثاني: قصة عتق أبي لهب لثويبة الأسلمية فرحا بمولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الصحيحين
رواية البخاري
حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، أَنَّ زَيْنَبَ ابْنَةَ أَبِي سَلَمَةَ، أَخْبَرَتْهُ أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ أَخْبَرَتْهَا أَنَّهَا، قَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ انْكِحْ أُخْتِي بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ فَقَالَ " أَوَتُحِبِّينَ ذَلِكَ ". فَقُلْتُ نَعَمْ، لَسْتُ لَكَ بِمُخْلِيَةٍ، وَأَحَبُّ مَنْ شَارَكَنِي فِي خَيْرٍ أُخْتِي. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم " إِنَّ ذَلِكَ لاَ يَحِلُّ لِي ". قُلْتُ فَإِنَّا نُحَدَّثُ أَنَّكَ تُرِيدُ أَنْ تَنْكِحَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ. قَالَ " بِنْتَ أُمِّ سَلَمَةَ ". قُلْتُ نَعَمْ. فَقَالَ " لَوْ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حَجْرِي مَا حَلَّتْ لِي إِنَّهَا لاَبْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، أَرْضَعَتْنِي وَأَبَا سَلَمَةَ ثُوَيْبَةُ فَلاَ تَعْرِضْنَ عَلَىَّ بَنَاتِكُنَّ وَلاَ أَخَوَاتِكُنَّ ". قَالَ عُرْوَةُ وَثُوَيْبَةُ مَوْلاَةٌ لأَبِي لَهَبٍ كَانَ أَبُو لَهَبٍ أَعْتَقَهَا فَأَرْضَعَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا مَاتَ أَبُو لَهَبٍ أُرِيَهُ بَعْضُ أَهْلِهِ بِشَرِّ حِيبَةٍ قَالَ لَهُ مَاذَا لَقِيتَ قَالَ أَبُو لَهَبٍ لَمْ أَلْقَ بَعْدَكُمْ غَيْرَ أَنِّي سُقِيتُ فِي هَذِهِ بِعَتَاقَتِي"
وقد ذكر السهيلي وغيره أنه قال لأخيه العباس في هذا المنام: وإنه ليخفف عني في كل يوم اثنين.
أقوال العلماء المعتبرين من علماءالمسلمين
(1) وقد سئل شيخ الإسلام حافظ العصر أبو الفضل ابن حجر عن عمل المولد فأجاب بما نصه:
أصل عمل المولد بدعة لم تنقل عن أحد من السلف الصالح من القرون الثلاثة، ولكنها مع ذلك قد اشتملت على محاسن وضدها، فمن تحرى في عملها المحاسن وتجنب ضدها كان بدعة حسنة، وإلا فلا.
قال: وقد ظهر لي تخريجها على أصل ثابت، وهو ما ثبت في الصحيحين من أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء فسألهم؟ فقالوا: هو يوم أغرق الله فيه فرعون ونجى موسى فنحن نصومه شكرا لله تعالى، فيستفاد منه فعل الشكر لله على ما مَنَّ به في يوم معين من إسداء نعمة أو دفع نقمة، ويعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة، والشكر لله يحصل بأنواع العبادة كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة، وأي نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي نبي الرحمة في ذلك اليوم، وعلى هذا فينبغي أن يتحرى اليوم بعينه حتى يطابق قصة موسى في يوم عاشوراء،
(2) الإمام السيوطي:- عندما سئل عن الاحتفال بالمولد النبوي قال:-
الجـــــواب:
عندي أن أصل عمل المولد الذي هو اجتماع الناس وقراءة ما تيسر من القرآن ورواية الأخبار الواردة في مبدأ أمر النبي صلى الله عليه وسلم وما وقع في مولده من الآيات ثم يمد لهم سماط يأكلونه وينصرفون من غير زيادة على ذلك هو من البدع الحسنة التي يثاب عليها صاحبها لما فيه من تعظيم قدر النبي صلى الله عليه وسلم وإظهار الفرح والاستبشار بمولده الشريف.وقد ظهر لي تخريجه على أصل آخر، وهو ما أخرجه البيهقي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد النبوة، مع أنه قد ورد أن جده عبد المطلب عق عنه في سابع ولادته، والعقيقة لا تعاد مرة ثانية فيحمل ذلك على أن الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم إظهار للشكر على إيجاد الله إياه رحمة للعالمين، وتشريع لأمته كما كان يصلي على نفسه، لذلك فيستحب لنا أيضا إظهار الشكر بمولده بالاجتماع وإطعام الطعام ونحو ذلك من وجوه القربات وإظهار المسرات.
وقد ادعى الشيخ تاج الدين عمر بن علي اللخمي السكندري المشهور بالفاكهاني من متأخري المالكية أن عمل المولد بدعة مذمومة، وألف في ذلك كتابا سماه (المورد في الكلام على عمل المولد)
(3) قال ابن كثير في تاريخه:
كان الملك المظفر كوكبري بن علي زين الدين بن بكتكين يعمل المولد الشريف في ربيع الأول ويحتفل به احتفالا هائلا، وكان شهما شجاعا بطلا عاقلا عالما عادلا رحمه الله وأكرم مثواه. قال: وقد صنف له الشيخ أبو الخطاب ابن دحية مجلدا في المولد النبوي سماه (التنوير في مولد البشير النذير) فأجازه على ذلك بألف دينار وذكر ذلك ابن خلكان في ترجمة الحافظ أبي الخطاب ابن دحية بقوله: وقد سمعناه على السلطان في ستة مجالس في سنة خمس وعشرين وستمائة. انتهى.
(4) قال الكمال الأدفوي في (الطالع السعيد):
حكى لنا صاحبنا العدل ناصر الدين محمود ابن العماد، أن أبا الطيب محمد ابن إبراهيم السبتي المالكي نزيل قوص أحد العلماء العاملين كان يجوز بالمكتب في اليوم الذي فيه ولد النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: يا فقيه، هذا يوم سرور، اصرف الصبيان، فيصرفنا.
رد على الشبهات:-
(1) رد على شبهة أنه بدعة لم تكن خلال القرون الثلاثة الأولى:-
• قال النووي في تهذيب الأسماء واللغات:البدعة في الشرع هي إحداث ما لم يكن في عهد رسول الله صلى الله علبه وسلم وهي منقسمة إلى حسنة وقبيحة.
وقد قال عمر رضي الله عنه في قيام شهر رمضان: (نعمت البدعة هذه) يعني أنها محدثة لم تكن، وإذا كانت فليس فيها رد لما مضى
• وروى البيهقي بإسناده في مناقب الشافعي عن الشافعي قال:
المحدثات من الأمور ضربان:
أحدهما: ما أحدث مما يخالف كتابا أو سنة أو أثرا أو إجماعا، فهذه البدعة الضلالة.
والثاني: ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا، وهذه محدثة غير مذمومة
• وقال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في القواعد:
البدعة منقسمة إلى واجبة ومحرمة ومندوبة ومكروهة ومباحة.
قال: والطريق في ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة فإذا دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة، أو في قواعد التحريم فهي محرمة، أو الندب فمندوبة، أو المكروه فمكروهة، أو المباح فمباحة
• وقد تكلم الإمام أبو عبد الله ابن الحاج في كتابه المدخل على عمل المولد فأتقن الكلام فيه جدا، وحاصله: مدح ما كان فيه من إظهار شعار وشكر، وذم ما احتوى عليه من محرمات ومنكرات.
• قال السيوطي :-نفي العلم لا يلزم منه نفي الوجود، وقد استخرج له إمام الحفاظ أبو الفضل ابن حجر أصلا من السنة، واستخرجت له أنا أصلاً ثانياً،
(2) رد على أنه لماذا لايحتفل بإنتقاله إلى جوار ربه رغم أنها تمت في نفس الشهر.
إن ولادته صلى الله عليه وسلم أعظم النعم علينا، ووفاته أعظم المصائب لنا، والشريعة حثت على إظهار شكر النعم، والصبر والسلوان والكتم عند المصائب، وقد أمر الشرع بالعقيقة عند الولادة، وهي إظهار شكر وفرح بالمولود، ولم يأمر عند الموت بذلك، بل نهى عن النياحة وإظهار الجزع، فدلت قواعد الشريعة على أنه يحسن في هذا الشهر إظهار الفرح بولادته صلى الله عليه وسلم دون إظهار الحزن فيه بوفاته.
(3) رد على شبهة أنه إلتزم صلى الله عليه وآله وسلم في الأوقات الفاضلة ما التزمه مما قد علم، ولم يلتزم في هذا الشهر ما التزمه في غيره
فالجواب أن ذلك لما علم من عادته الكريمة أنه يريد التخفيف عن أمته، سيما فيما كان يخصه، ألا ترى إلى أنه عليه السلام حرم المدينة مثل ما حرم إبراهيم مكة، ومع ذلك لم يشرع في قتل صيده ولا شجره الجزاء تخفيفا على أمته ورحمة بهم، فكان ينظر إلى ما هو من جهته وإن كان فاضلا في نفسه فيتركه للتخفيف عنهم
وقال الحافظ شمس الدين بن ناصر الدين الدمشقي في كتابه المسمى (مورد الصادي في مولد الهادي):قد صح أن أبا لهب يخفف عنه عذاب النار في مثل يوم الاثنين لإعتاقه ثويبة سرورا بميلاد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أنشد: *
إذا كان هـذا كافرا جـاء ذمـه
وتبت يـداه في الجحـيم مخـلدا
أتى أنـه في يـوم الاثنين دائـما